أمّي وأعرفها | فصل

رواية «أمّي وأعرفها» (2023)

 

صدرت رواية «أمّي وأعرفها» (2023) للكاتب أحمد طمّليه عن «المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر».

جاءت الرواية في 184 صفحة، تفترض حيًّا في العاصمة الأردنيّة عمّان، يعيش فيه مَنْ تهجَّر من فلسطين، سواء أعقاب نكبة عام 1948 أو نكسة عام 1967، وترصد ظروفهم الاجتماعيّة من خلال التركيز على شابّ حالم يحلم بامرأة، في ما يعيش مَنْ حوله شقاء الشتات.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الرواية بالتعاون مع الناشر.

 


 

ما العمل؟ هذا ما كان يدور في ذهن ثابت، الأب ممدّد على السرير على الدوام، والأطبّاء عمليًّا لا يفعلون له شيئًا، وفاتورة المستشفى تزيد، إلى أن وصلت رقمًا، لا يملكه ثابت ولا كلّ أهله، فاتّخذ القرار: أن يهرّبه من المستشفى.

 ادّعى أنّه يمشّيه في الممرّ، خرج به من البوّابة، وفور أن رأى سيّارة أجرة، ركبا فيها، وعادا إلى البيت.

بقي أبو ثابت ممدّدًا على فراشه في البيت. أهل البيت اهتمّوا به بداية، ثمّ صاروا ينصرفون عنه، ليس تقليلًا من شأن صحّته، لكنّه العجز: ماذا يمكن أن يفعلوا له؟

صار أبو ثابت يعبّر عن أوجاعه بشكل واضح وصريح، يصرخ في الليل والنهار. كان دائمًا ينادي ثابتًا بأعلى صوته، لا أحد غيره. وعندما يصمت، ويمضي وقت دون أن يسمعوا له صوتًا، يأتيه ثابت للاطمئنان عليه.

يراه ينظر إلى سقف الغرفة، نظرة غريبة، فيها اهتمام بالغ بما يراه، دهشة إزاء ما يرى، ذهول ممّا يرى، لكنّه لا ينظر إلى شيء محدّد. راقبه ثابت باهتمام. قال إنّه لا ينظر إلى شيء محدّد، نظرته شاردة نحو شيء يبدو بعيدًا... بعيدًا.

صارت هذه النظرة حديث أهل أبي ثابت مع مَنْ يسأل عنه، أحدهم قال لهم إنّه يودّع، يسلّم (وداعته). وحين سألوه: إلى ماذا تنظر؟ لم يردّ.

لم يشأ الطبيب أن يكتب حين أخذوه إلى المستشفى، في التقرير الطبّيّ، أنّ سبب الوفاة إهمال طبّيّ؛ تشخيص غير صحيح. كتب مصطلحات طبّيّة مبهمة، تعمّد أن يكتبها بخطّ غير مقروء.

في بيت العزاء، كان الناس يسألون عن سبب الوفاة، منهم مَنْ قال إنّ المرحوم كان في كامل صحّته، ومنهم مَنْ كذب وقال إنّه رآه وهو ذاهب إلى المستشفى يمشي على قدميه.

كيف مات؟

لا إجابة لدى أهل المتوفّى؛ فهم - أيضًا - لا يعرفون كيف مات، لا يعرفون ماذا كتب الطبيب في التقرير، لم يكن يهمّهم أن يعرفوا ماذا كتب الطبيب في التقرير، المهمّ أخذ التقرير؛ للحصول على إذن دفن من المركز الأمنيّ. دون التقرير لن يصدّق أحد أنّه مات.

لا أحد يعرف لماذا مات.

يجتهد ثابت في الإجابة، يقول أشياء سمع الأطبّاء يقولونها لذوي متوفّين: هبوط حادّ في الضغط.

ويقول لآخر: جلطة. لكنّ هذا الآخر يسأل:

أين؟

يردّ ثابت بثقة، بعد أن لاحظ أنّ إجاباته شافية وافية؛ بدليل أنّ السائل يسكت، ويطرق رأسه أسفًا، يكمل بثقة:

جلطة على الدماغ.

يقول لآخر:

- ارتفاع مذهل بالضغط.

ولآخر: تصلّب لا حلّ له في الشرايين.

كان يلاحظ أنّ السائل يسكت، ويمضي في سبيله، مقتنعًا، دون أدنى شكّ، بأنّ السبب الّذي ذُكِر موجب للموت حقًّا. يتابعه ثابت بنظرات لا تخلو من شماتة:

 أنا أعرف كيف مات أبي، أتحدّى إذا كنت أنت تعرف كيف مات أبوك.

ما لفت انتباه فؤاد في بيت العزاء، أنّ أهل المخيّم لا يشكون لبعضهم بعضًا مشاكلهم الحقيقيّة، يحاولون أن يظهروا متماسكين. أبو ثابت يموت، وأهل المخيّم يسألون: كيف مات؟

عندما مات أبو ثابت، مات كثيرون، فؤاد واحد منهم. منذ مات أبو ثابت، ترسّخت قناعته بأنّ ثمّة أسبابًا موجبة للموت. هذا الجسد ليس بئرًا عميقة لا أحد يعرف قرارها، بل هو مكشوف لكلّ الجراثيم، لمختلف أنواع البكتيريا، والفيروسات، والأمراض السارية وغير السارية.

"ليلة أمس، حين كنت غارقًا في النوم، تخدّرت يدي؛ صحوت فزعًا، ظننت أنّ يدي لن تعود إلى طبيعتها، وأنّ الخدر سوف يسري في كلّ جسدي، ثمّ أموت. أليس الموت يأتي على هذا النحو، أم ذاك؟"

كاد فؤاد يجنّ تلك الليلة الّتي أعقبت دفن أبي ثابت، لولا أنّ أُمّه استيقظت في الوقت المناسب؛ استيقظت على هلوساته، رمت بنفسها نحوه، راحت تتحسّس جبينه، قرأت آية قرآنيّة تطرد الشيطان، وتبعد الشرّ عنه.

حين حدّثها عمّا حدث معه، ضحكت؛ أعادت الأمر إلى مجرّد خدر ناجم عن نوم في وضعيّة ليست مريحة، لكنّها كانت تعرف أنّ دفن أبي ثابت أمس، له علاقة بما أصاب ابنها.

فؤاد في بيت العزاء يفكّر في حال أهل المخيّم: كم هم ضعفاء! ليس هذا فقط، بل إنّهم لا يعبّرون لبعضهم بعضًا عن مشاعرهم الحقيقيّة. لا يمكن أن تجد جارًا يقول لجاره: أنا أكرهك. أو يعبّر جار لجارته عن إعجابه بطريقتها في تدبير شؤون بيتها؛ قد يُفْهَم خطأ، وألسنة الناس لا ترحم.

إنّهم لا يعبّرون عن مشاعرهم الحقيقيّة، حتّى لو بدت تلك المشاعر واضحة للعيان، فإنّهم يتحفّظون في إعلانها. أزمة أبي ثابت طالت كثيرًا قبل أن يموت، ولم تظهر أمّ ثابت بالصورة، ولا مرّة، كأنّها ليست موجودة.

لكنّ أُمّ ثابت موجودة، وتحبّه، تحبّه بصمت، تحبّه حقًّا. تراه جبلًا، يقدر على كلّ شيء، يقدر عليها، هو الوحيد الّذي يقدر عليها. تغيب عن الوعي عندما كان ينام معها، ساحر أبو ثابت؛ يقول لها كلامًا، لم تسمع مثله في حياتها، ثمّ يأخذها إلى البعيد، إلى مكان لم تره قبل أبي ثابت، مكان تبكي فيه، لكنّه بكاء حلو. حتّى عندما كان أبو ثابت لا يريد، تتمنّى، في أعماقها، لو أنّه يريد، لكنّها لا تطلب، لا تجرؤ أن تطلب أن يأخذها أبو ثابت إلى ذاك المكان الّذي تبكي كثيرًا فيه، لا يجوز أن تطلب، عيب أن تطلب.

كانت تعرف من نظرة عينه أنّه سوف يطلب؛ تترك ما في يدها وتذهب للاستحمام. تمزع جسدها وهي تفركه بالليفة الخشنة والصابون، ثمّ ترتدي ثوبها البنّيّ اللئيم وتجلس تنتظر. هي لا تجلس، عيب أن تجلس وتنتظر، تشغل نفسها بأشياء الغاية منها إشعاره بأنّها مشغولة تمامًا عنه. وحين يراها بالثوب البنّيّ يموت؛ يقتله الثوب البنّيّ. وهي تعرف؛ تعرف أنّ الثوب البنّيّ يقتله، ومع ذلك ترتديه؛ تريده أن يُقْتَل. هذا الكائن الّذي يعرفه الآخرون، تريده أن يموت ويأتيها الّذي تعرفه هي... هي الوحيدة الّتي تعرفه. ذاك النبض الّذي يأخذها إلى مكان بعيد، تبكي فيه كثيرًا، وتفرغ فيه كلّ ما في جعبتها من فرح.

لماذا لا نقول للّذين نحبّهم إنّنا نحبّهم؟

يتذكّر: أُمّ محمود، لقد رفضت استقبال ابنها العائد من الغربة بالأحضان، بل انزوت في المطبخ، وبلّغت المحيطين أنّها لا تريد أن ترى وجهه. وحين دخل عليها ابنها، وأخذ يقبّل قدميها؛ طالبًا أن تسامحه، رغم أنّه لم يفعل ما يستوجب المسامحة، بقيت جامدة في مكانها، واكتفت بأن ربتت على كتفه بحركة سريعة، كأنّها تخشى أن تتراجع عنها.

أُمّ محمود غريبة الأطوار، إنّها لا تُذْكَر إلّا عندما تظهر؛ أي لا أحد يتذكّرها إلّا عندما تظهر، كأنّها بعد ذلك تذهب إلى شأنها، كأنّها تؤدّي دورًا، وحين ينتهي دورها تذهب في سبيلها.

لا أحد يتذكّرها، مثلًا، إلّا وهي ترفض استقبال ابنها بالأحضان؛ لقد أدّت الدور على نحو مبهر، بدت أُمًّا تضطرم المشاعر في داخلها، لكنّها تمسك نفسها، بكلّ ما أوتيت من ضعف؛ كي لا تعرب عنها.

كأنّها ممثّلة في فيلم طويل اسمه الحياة، تؤدّي الدور المطلوب منها وتذهب. لا أحد يستطيع أن يحسم أين ذهبت، لا أحد يستطيع أن يتخيّل ماذا فعلت عندما ذهبت، لا أحد يستطيع أن يتصوّر ماذا تفعل الآن وهي غائبة. هذا ما كان يخطر في ذهن فؤاد عندما يراها. يقول:

أستطيع أن أتخيّل، بل أجزم، ماذا تفعل الحاجّة أمينة الآن، وهي ليست موجودة: إنّها جالسة في بيت العزاء مع النسوة. تضع يدها على خدّها، وتضخّ كلّ ما في داخلها من حزن؛ للإيحاء كم هي حزينة على فقدان أبي ثابت! تنظر من وقت إلى آخر، إلى أُمّ ثابت، ثمّ تطلق ما يشبه العويل، صرخة رنّانة تتجاوز حدود البيت، وتكاد تصل السماء، أسفًا على فقدانه، ثمّ تعود وتضع يدها على خدّها.

لا أحد يمكن أن يختلف حول ما يفعله ثابت الآن، إنّه لا يهدأ؛ يتحرّك من مكان إلى مكان في بيت العزاء. يحاول أن يقترب من كلّ المعزّين؛ لشكرهم على تجشّمهم عناء الحضور للأخذ بخاطره. لا يهدأ، عيناه تحومان في فضاء بيت العزاء، يتأكّد أنّ نصاب الحضور مكتمل، يتأكّد أنّ علب الفاين موزّعة على كلّ الطاولات، وأنّ فناجين القهوة مغسولة، وأن لا أحد ينقصه شيء.

يمكن أن تتخيّل كثيرين ماذا يفعلون وهم بعيدون عن نظرك، مستفيدًا من معرفتك بشخصيّاتهم، وطبيعة الظرف الّذي هم فيه، إلّا أُمّ محمود، لا يستطيع أحد أن يقدّر ما الّذي تفعله الآن.

يفكّر فؤاد: إنّهم يتحفّظون عن إعلان مشاعرهم، كأنّ التعبير عن المشاعر عيب، كأنّ التعبير عن المشاعر ضعف، كأنّ التعبير عن المشاعر مسؤوليّة.

ليس سهلًا أن تكون محبًّا، ليس سهلًا أن تعبّر لمَنْ تحبّ عن حبّك له، سوف تبكي إذا فعلت. الدموع وليس الضحك هي الآليّة الّتي يعبّر من خلالها أهل المخيّم عن فرحهم. أمّا عندما يحزنون فإنّهم يلتزمون الصمت؛ صمت ينحت الصخر، يبكي على حاله الحجر.

غريب أمرهم، يقول فؤاد:

 يتشاركون في كلّ شيء، يتبادلون كلّ شيء، إلّا تبادل المشاعر.

يضحك حين يتذكّر منصور حين دخل عليه، ذات يوم، غاضبًا، يريد أن يمسح به الأرض؛ لسبب لا يعرفه، أو لم يسعفه الوقت ليسأله عنه. يومذاك، قال له فؤاد إنّ عينه تؤلمه منذ الصباح، ولا يعرف ماذا يفعل. توقّف حينذاك منصور عن الهجوم؛ توقّف وراح يسترق النظر إلى عين فؤاد، ثمّ خرج وهو يتمتم: "لنا كلام بعدين".

سعيد خسر خطيبته الأولى؛ بسبب أسلوبه في التعبير عن مشاعره، فإذا أراد أن يشعرها بأنّها قريبة منه، يجد نفسه قد تعمّد تجاهلها. مرّة، وهذا كان سبب فسخ الخطبة بينهما، شعر برغبة شديدة في أن يمسك يدها، وقد مدّ يده فعلًا كي يمسك يدها، لكن يده ارتفعت، دون قصد منه، وصفعتها.

ثمّة أزمة لدى سكّان المخيّم في ما يخصّ التعبير عن مشاعرهم، ناجمة عن حساسيّة زائدة، تجعلهم على مشارف الإجهاش في البكاء، كلّما هزّت أشواقهم الدفينة مشاعر نبيلة. ربّما لأنّ الفرح أشبه بالماء الساخن إذا انسكب على الروح الضامرة، تكون النتيجة انكسارًا.

 

***

 

الحاجّة أمينة ماتت قبل أن تطأ قدماها أرض فلسطين.

كيف؟

أُصيبت بوهن شديد صباح اليوم، نادت جارتها. الجارة تقول إنّها كانت ميّتة عندما ذهبت إليها، غير أنّ أبا حسن يقول إنّها ماتت معه في السيّارة، أثناء ذهابه بها إلى المستشفى. ثابت يقول إنّ الطبيب رفض أن يفعل لها شيئًا، وعندما سألوه: لماذا؟ قال: إنّها تحتضر، لا جدوى من شيء معها.

أمّ فؤاد تقول إنّها سمعت شهقة الموت تخرج منها فجرًا، وأنّها ذهبت إليها فورًا، وجدتها في حالة يُرْثى لها، ممدّدة على الأرض، دون أن تتحرّك، حتّى أنّها لم تتمكّن من رفع يدها لتناول كأس الماء منها.

لا أحد يعرف متى ماتت بالضبط، لكنّ الكلّ يجزم أنّها كانت في أيّامها الأخيرة تودّع. لقد أثقلتها الوحدة، منذ أن توفّي زوجها، وتوزّع أولادها في بلاد الله بحثًا عن لقمة العيش، وهي تعيش وحيدة.

أثقلتها الوحدة؛ تجلس على عتبة بيتها بالساعات، وهي تراقب الذاهب والقادم، وتفتعل كلامًا مع مارق الطريق. لكنّ النهار لم يكن يمضي إلّا بطلوع الروح. طويل نهارها، يذهب رجال الحيّ إلى أعمالهم، والطلّاب إلى مدارسهم، وتنشغل ربّات البيوت في شؤون بيوتهم، والحاجّة أمينة جالسة على عتبة دارها تراقب الذاهب والقادم.

 طويل نهارها، وليلها موحش، تقضيه وحدها، هي والعتمة.

تصرّفاتها غريبة في أيّامها الأخيرة، تزور الجيران في منتصف الليل، لا تطلب شيئًا، فقط تجلس، تريد أن تسمع صوتًا، أن تستأنس، صارت تخاف من عتمة الليل، تنام والباب مفتوح. يقولون إنّها لا تنام، تبقى مبحلقة في السقف حتّى يؤذّن، تصلّي، وتقرأ القرآن بصوت مرتفع، وما إن ينشقّ ضوء النهار، حتّى تخرج للجلوس على عتبة البيت.

يقول لها البعض: لماذا لا تبقين مستريحة في غرفتك، والّذي يرغب في رؤيتك يأتي إليك؟

 تقول إذا فعلت ذلك فلن يأتيها أحد، وتبقى وحدها في الغرفة. تقول إنّها لا تريد شيئًا سوى أن تسمع أصواتًا.

تبًّا! المرء، في نهاية المطاف، أسير الوحدة، وإذا خذلته صحّته، كحال الحاجّة أمينة، يصير أسير وحدته وضعفه. والناس عمومًا لا يحبّون التعامل مع الضعفاء، التعامل معهم منهك. العين على متطلّباتهم الصغيرة تبدو ثقيلة من كثرة تكرارها، والقلب يشفق على حال البني آدم، مهما صال وجال، فمصيره الوحدة والضعف.

ما أسوأ أن تكون وحيدًا وضعيفًا! الوحدة والضعف ضدّان لا يلتقيان، فكيف إذا التقيا في شخص واحد؟ مؤسف أن يكبر المرء، كنوز الدنيا لا تبهر عينه.

زارها فؤاد قبل وفاتها بأيّام، جلس معها في غرفتها، كانت غائبة عن الوعي، لكنْ فؤاد يقول: ما شاء الله عليها! يقول، لم يرها قويّة كما رآها ذلك اليوم؛ كان وجهها أبيض، يشعّ منه ما يشبه النور، وكانت تبتسم، الابتسامة لم تفارق شفتيها. قالت له:

"لا تخف من الموت، الموت لا يخيف". كأنّها قالت: "لا أعرف كيف أصف لك ما أحسّ به، لكنّك سوف تحسّ بما أحسّ به. ليس الآن، ما شاء الله عليك! ربّنا يحمي شبابك، لكن بعد حين... بعد عمر طويل".

حين سمع أهل الحيّ بخبر موتها تهافتوا إلى بيتها. النساء تركن أشغالهنّ وأعمالهنّ، وذهبن إلى بيت الحاجّة أمينة، الرجال لم يذهبوا إلى الدوام صباح ذلك اليوم، حتّى طلّاب المدارس لم يذهبوا إلى مدارسهم.

تجمّع الجميع في بيت الحاجّة أمينة. النساء انشغلن فورًا في إعداد الطعام. طناجر كلّ أهالي الحيّ كانت تغلي على النيران، فيها لحم كثير، لحم لم يدخل الحيّ مثله من قبل.

لحم كثير، ولبن يغلي، ورزّ يبقبق في الطناجر، ونساء الحيّ يفعلن المستحيل حتّى يكون الطعام جاهزًا، بعد أن يفرغ الرجال من الدفن.

نقص اللبن، الحاجة ملحّة إلى المزيد من اللبن. إحدى النساء دلقت صدرها في الطنجرة، وراحت تعصر داخلها ما في صدرها من حليب. استهوت الفكرة بقيّة النساء: صدور مدلوقة في طناجر تغلي على النار: ضحك من انفعالهنّ الزائد مخلوط بحزن عميق.

لم يكن وضع الرجال أفضل حالًا؛ ما إن حملوا الجثمان على أكتافهم من سيّارة نقل الموتى، وحاولوا أن يذهبوا به إلى حيث الحفرة، مسافة قد تصل إلى مئة متر، وإذ بالجثمان يتمايل على أكتافهم. أوشك الجثمان أن يقع على الأرض، الأرض مبلولة؛ مطر كانون الثاني غزير. أقدام حاملي الجثمان موغلة في الطين، والجثمان يُوشَك أن يسقط، مستحيل أن يسقط. الرجال يبتهلون بصوت مرتفع: الله أكبر... الله أكبر. إلى أن وصلوا الحفرة وقد هدّهم الإعياء. قبّلوا التراب الّذي سوف تُدْفَن تحته الحاجّة أمينة، وقرؤوا الفاتحة على روحها.

 


 

أحمد طمّليه

 

 

 

كاتب وروائيّ فلسطينيّ أردنيّ، يعيش في عمّان.